عروس فلسطين
يافا الساحرة الرائعة، عروس فلسطين، التي تبدو كأنها واحة أفلتت من الجنة، وهي من أعرق مدائن الدنيا الخالدة إلى اليوم، ومن أقدم موانئ العالم القديم، ظلت تحتفظ بهويتها العربية طوال مسيرتها، إلى أن تبدل كل شيء دفعة واحدة عشية تأسيس إسرائيل1948، فشرد سكانها العرب خارج لحدود، وحولها الإسرائيليون مع الزمن إلى ما يشبه الخرابة الأثرية الهائلة، الملحقة بمدينتهم (تل أبيب) التي لا تزيد في الحقيقة عن كونها امتداداً لـ(يافا) الجديدة شرقاً وشمالاً.
أسفرت الاكتشاف الثرية الحديثة عن تواجد الإنسان في البقاع المحيطة بيافا في العصور الحجرية كلها، قديمها ووسيطها وحديثها، وظهرت في تلك البقاع حضارات تعد من أعظم وأعرق الحضارات البشرية جمعاء، وظهرت في تلك التعرف فـ (مغارة شقبة) القريبة من يافا، والواقعة في وادي النطوف، على مخلفات إنسانية، أقدمها يعود إلى المرحلة الثانية من العصر الحجري القديم بينما أحدثها يعود إلى فترة العصر الحجري الوسيط (10000-80000ق.م)..
ومن الأخيرة جاءنا ما اصطلح عليه العلماء (الحضارة النطوفية) التي تعتبر الخطوة الأولى على طريق تقدم الإنسان وارتقائه، فبعد أن بلغ النطوفيون درجة عالية من التقدم، وضعوا الأساس المادي والفكري المباشر للانعطاف الجذري الأهم في تاريخ البشرية وفي تلك البقاع اليافية أيضاً تقع (جازر) التي أطلق اسمها على حضارة تعود إلى عصر الحجري الحديث، وجاوز أول بلدة أنشئت في هذه المنطقة، وأنشأ أهلها حولها سوراً لحمايتها من خطر العدوان عليها، وقد وسعها العموريون والكنعانيون فيما بعد وتم ذكرها مراراً في سجل التاريخ الفرعوني، وقد عثر- فضلاً عما تقدم- على آثار فخارية وصوانية، في كل من: (خربة الشيخ ميصر) ومواقع مختلفة في ضواحي (يافا وتل أبيب) مشابهة لحضارة الغسول، التي تعود إلى العصر الحجري النحاسي (4500-3200ق.م) وعثروا أيضاً في (خربة الشيخ ميصر) على بناء مستطيل شبيه بمعابد الحضارة الغسولية.
ولادة يافا وطفلتها
بالقرب من هذه البقاع الفلسطينية التي شهدت أهم الحضارات وأعرقها وضع أجدادنا العرب الكنعانيون أول حجر في مدينة يافا على شاطئ البحر قبل الألف الرابعة ق.م، أيقبل ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة ومن قبل أن يكون على سطح الأرض يهود أو ديانة يهودية يتبعها ويتشكون معها.
وقد اختار أجدادنا أن يبنوا مدينتهم على صخرة منيعة حولها أراض خصبة، وكان في شمال هذه الصخرة ينبوعان يرتوي منهما الإنسان والنبات فكانت تشف من موقعها هذا على زرقة البحر الأبيض المتوسط غرباً، وعلى بحر آخر من الخضرة اللامتناهية شمالاً وجنوباً.
وفي شرق يافا الطرق الهامة عبر فلسطين من مصر جنوباً إلى لبنان وسورية وتركيا شمالاً، وعند هذا الموقع يتفرع شرقاً طريق القدس وشق الأردن وما وراءها، وظلت يافا قائمة على صخرتها العتيدة تقاوم الزمن وترد المعتدين، فتارة تتحصن داخل أسوارها فيرتد عنها الغزاة، وتارة تفضل الموت على الاستسلام فيهدمها أهلها حتى لا تقع في أيدي أعدائها، ثم لا تلبث أن تسترد حياتها ومجدها، هذه العوامل مجتمعة جعلت من صخرة يافا موقعاً صالحاً لإنشاء مدينة منيعة وغنية بالزراعة والتجارة. وبقدر ما كان هذا من حسن طالع أهلها، فقد كان أيضاً من أسباب كثرة متاعبهم، بسبب غزوات الطامعين وحروب المتنافسين، ومن ثم يعتبر تاريخ يافا المديد منذ أكثر من ستة آلاف سنة من أحفل تواريخ بلدانيات العالم المليئة بالأحداث الجسام، بفعل ما تعاقب عليها من عصور الدمار الازدهار على حد سواء.
يافا الكنعانية
يؤثر عن الكنعانيين حبهم وولعهم بالفن والجمال، فلا غرابة أن يوفقوا في اختيار اسم مدينتهم الصحيح تماماً حين أطلقوا عليها (يافى) بمعني الزاهية أو الفاتنة، وذكرتها النقوش المصرية باسم (يابوة أوجوبا) وفي أحد آثار (سنحاريب) الملك الآشوري نقشت باسم (ياآب بو)، و(يوبا) هو الاسم الذي أطلقه عليها الإغريق، وأطلق عليها العرب اسم (يافا)، وأطلق عليها أيام الحروب الصليبية الفرجة اسم (جافا)، وكل هذه الأسماء محرفة من اسمها الأصلي الكنعاني (يافى).
ولما كانت الاكتشافات الأثرية التي تعود إلى العهد الكنعاني قد ضنت علينا بوصف دقيق لمدينة (يافا) الكنعاني فإن الآثار المكتشفة في الأماكن المجاورة (كمدينة جازر) يمكن أن تعطيها صورة ولو تقريبية لما كانت عليه (يافا) في ذلك العهد، ويبدو أنها كانت مجموعة غير منتظمة من البيوت الصغيرة المتزاحمة، منتشرة فوق الهضبة وعلى جوانبها، يحيط بها سور، حجارته مقطوعة بأدوات حادة، ومهذبة قليلاً، وكان للسور أبراج بلغ ارتفاعها اثني عشر متراً، ويتوسط المدينة قلعة في أعلى الرابية فيها قصر الملك وأماكن العبادة.
أما طرق المدينة فكانت ضيقة معوجة، وعيون الماء خارج سورها، مما جعلها تعاني المصاعب أوقات حصارها، مما دعي السكان إلى أن ينحتوا في الصخر أحواضاً، لخزن المياه ليشربوا منها فترات الحصار، فلما زاد عدد السكان، واتسعت الرقعة التي تشغلها المدينة زحزحت الأسوار ليدخل في نطاقها ما استجد من البيوت، وتدخل أيضاً هذا النطاق عينا الماء المذكورتان، مما جعلها بمأمن من العطش أوقات الحصار، فكانت كسائر المدن الكنعانية مملكة بحد ذاتها.
أما عن نشاطات أهل يافا لكسب قوتهم في تلك الآونة، فقد تنوعت بين الزراعة والرعي والصناعة والتجارة. أما الزراعة، فقد بلغت عندهم درجة عالية من التقدم، ولا عجب في ذلك، فبإجتماع العلماء أن قدامى أهل فلسطين هم أول شعب مارس الزراعة، وقد اشتهر السهل الساحلي بمراعية الخصبة التي استغلها النوطفيون منذ العصر الحجري الوسيط، كما اشتهرت يافا بصناعاتها منذ ولادتها. ومن الصناعات المبكرة جداً فيها الغزل والنسيج والفخار وعصر الزيت والخمور وبناء السفن. وحيث إنها كانت من أقدم موانئ العالم، فقد جعلها ذلك المنفذ الأول الفلسطيني من حيث التصدير والاستيراد.
علاقة يافا بمصر
ربما تعود العلاقة إلى العهد النطوفي أو بعده مباشرة، وقد ابتدأت تجارية، ولكن في عهد الأسرة الخامسة الفرعونية (2540ق.م) في نقوش (أبو بصير) نجد مناظر إقلاع وعودة أسطول مصري إلى أحد شواطئ فلسطين من المرجح أنه ميناء يافا، وبإجماع علماء الآثار أن استقبال الملك لهذا الأسطول –يحط به كبار الموظفين- دليل على أن هذا الأسطول لم يذهب للحرب أو التجارة، إنما كان في رحلة ودية إلى تلك المدينة، وربما عاد بأميرة من الأميرات، لتصبح زوجة للفرعون.
وهناك أيضاً من الأسرة السادسة في عهد الملك (بيبي الأول) وثيقة مهمة، وهي لوحة القائد المصري (أوني) الذي عاش حوالي عام (2400ق.م). وقد ذكر هذا أنه ذهب لإخماد ثورة قامت في فلسطين، فجهز جيشين سار أحدهما بطريق البر، وذهب هو مع الجيش الثاني بطريق البحر، وأنهم نزلوا عند مكان يحتمل أن يكون على مقربة من جبال الكرمل، وأنه توغل بعد ذلك داخل البلاد، وقمع تلك الثورة. ويفهم من كل هذه المعطيات أن أنسب مكان يمكن أن تدور به هذه الأحداث إنما كان مدينة يافا، بدليل ذكر (سهل سارون) وهو السهل الممتد لين يافا جنوباً وجبال الكرمل شمالاً.
فقد ذكر أن (أوني) كان يجتمع في التخوم التي اجتازها من فلسطين مع رجال القوافل الفلسطينية الذين كانوا يوثقون الروابط التجارية مع بلاد نهر العاصي بسهل سارون. ومن المحتمل جداً أن تكون قد انتشرت بوساطتهم السلع والصناعات بين مصر وبلاد ما بين النهرين، وكانت يافا حلقة الوصل، وكانت يافا ضمن المدن الفلسطينية التيتم ذكرها في وثائق اللعنة الفرعونية، التي تعود إلى حوالى (1800ق.م).
وفي الفترة ما بين (1550-1225ق.م) يؤثر عن يافا أنها كانت مركزاً إدارياً محلياً، وفي بداية هذه الفترة من تاريخها كانت نهاية (الهكسوس) على يد أحمس، وإن كانت حملات أحمس قد انحصرت في المواقع الجنوبية من فلسطين، إلا أنها مهدت لإخضاع فلسطين وشرق الأردن، وغالبية المناطق السورية الأخرى أثناء الحملات التي شنها (تحتمس الثالث) حوالي (1470-1405ق.م). ويبدو أن هذه الحملات قد زادت على ست عشرة حملة، وصل بعضها حتى نهر الفرات. ويقودنا هذا إلى وقفة سريعة عند موضوع افتتاح يافا، حيث تواجهنا عدة اسئلة تلح في طلب الإجابة عليها تتعلق بتفرد يافا عن غيرها من أخواتها من المدن المفتوحة بهذا القدر العظيم الشأن من الاهتمام، مما جعلها تتبوأ مكانة سامية في الوجدان المصري، ويدور حولها الكثير من القصص والأساطير. فيا تري هل يعود ذلك إلى شهرتها التي حظيت بها منذ ولادتها؟ أو إلى منعتها وصمودها في وجه (تحمس) ومن سبقه من فراعنة مصر؟ أو أنه يعود إلى الاثنين معاً؟.
ويمكن القول بوجه عام: إن الشهرة التي حظيت بها جوهرة فلسطين وجنتها قد تعدت الواقع إلى مجال الخيال، مما جعلها تقف في مصاف أعظم مدائن العالم القديم، إن لم يكن في مقدمتها، فوجد فيها المؤخرون القدامى مادة خصبة لقصصهم وأساطيرهم، وغلفوها بهالة من الغموض والسحر، فها هو المؤرخ الروماني الشهير (بليني) يذكر أن يافا قد بنيت قبل الطوفان، وفي بعض الروايات أن نوحاً بني فلكه فيها، ولما انحسرت مياه الطوفان عن كرومها أعاد ولده (يافث) بناءها، وحول الصخور السوداء التي تنتشر في ميناء يافا أسطورة يونانية (اندروميدا).
وإن كان هذا وحده كفيلاً بتخليدها، فثمة عمل آخر لا يقل عنه أهمية، ويتمثل فيما حظاها الله تعالى به من منعة وثراء، جعلاها قلعة حصينة فريدة في نوعها يقف الغزاة أمامها عاجزين عن اقتحامها، ولعل في هذا ما يفسر لنا الطريقة التي فتحت بها يافا، والتي قام بابتكارها قائد (تحتمس) وهو (تحوتى) حسبما حسب ما جاء في الأدب المصري، وتداولته الألسن لأجيال عديدة، وهي طريقة تختلف تماماً عما كان يتبعه الفراعنة في فتح المدن، وجاءت أيضاً على خلاف ما عودنا عليه الفراعنة، من المبالغة والتهزيل، حين يريدون الحديث عن بطولاتهم وبسالتهم في مواجهة أعدائهم.
ويعتقد الباحثون أن يافا أصبحت القاعدة البحرية التي ينتقل إليها الجنود من مصر، وازدهرت أحوال يافا بعد انتصار (رمسيس الثاني) على الجيش، وعرف عمالها بالمهارة، وأهلها بالغنى، واشتهرت حدائقها بالجمال وجودة الثمار، وفي أوائل القرن الثاني عشر ق.م، ظهر الفلسطينيون (أحد بطون الكنعانيين)في هجراتهم المتأخرة، على أبواب يافا في طريقهم إلى غزو مصر، فاستطاع (رمسيس الثالث) أن يهزمهم، وربما يكون قد جمع سفنه عند يافا التي ظلت مركز حامية مصرية ترتبط بمصر مباشرة، ونقطة مراقبة، وقاعدة إنزال للقوات عند الضرورة.
يافا الساحرة الرائعة، عروس فلسطين، التي تبدو كأنها واحة أفلتت من الجنة، وهي من أعرق مدائن الدنيا الخالدة إلى اليوم، ومن أقدم موانئ العالم القديم، ظلت تحتفظ بهويتها العربية طوال مسيرتها، إلى أن تبدل كل شيء دفعة واحدة عشية تأسيس إسرائيل1948، فشرد سكانها العرب خارج لحدود، وحولها الإسرائيليون مع الزمن إلى ما يشبه الخرابة الأثرية الهائلة، الملحقة بمدينتهم (تل أبيب) التي لا تزيد في الحقيقة عن كونها امتداداً لـ(يافا) الجديدة شرقاً وشمالاً.
أسفرت الاكتشاف الثرية الحديثة عن تواجد الإنسان في البقاع المحيطة بيافا في العصور الحجرية كلها، قديمها ووسيطها وحديثها، وظهرت في تلك البقاع حضارات تعد من أعظم وأعرق الحضارات البشرية جمعاء، وظهرت في تلك التعرف فـ (مغارة شقبة) القريبة من يافا، والواقعة في وادي النطوف، على مخلفات إنسانية، أقدمها يعود إلى المرحلة الثانية من العصر الحجري القديم بينما أحدثها يعود إلى فترة العصر الحجري الوسيط (10000-80000ق.م)..
ومن الأخيرة جاءنا ما اصطلح عليه العلماء (الحضارة النطوفية) التي تعتبر الخطوة الأولى على طريق تقدم الإنسان وارتقائه، فبعد أن بلغ النطوفيون درجة عالية من التقدم، وضعوا الأساس المادي والفكري المباشر للانعطاف الجذري الأهم في تاريخ البشرية وفي تلك البقاع اليافية أيضاً تقع (جازر) التي أطلق اسمها على حضارة تعود إلى عصر الحجري الحديث، وجاوز أول بلدة أنشئت في هذه المنطقة، وأنشأ أهلها حولها سوراً لحمايتها من خطر العدوان عليها، وقد وسعها العموريون والكنعانيون فيما بعد وتم ذكرها مراراً في سجل التاريخ الفرعوني، وقد عثر- فضلاً عما تقدم- على آثار فخارية وصوانية، في كل من: (خربة الشيخ ميصر) ومواقع مختلفة في ضواحي (يافا وتل أبيب) مشابهة لحضارة الغسول، التي تعود إلى العصر الحجري النحاسي (4500-3200ق.م) وعثروا أيضاً في (خربة الشيخ ميصر) على بناء مستطيل شبيه بمعابد الحضارة الغسولية.
ولادة يافا وطفلتها
بالقرب من هذه البقاع الفلسطينية التي شهدت أهم الحضارات وأعرقها وضع أجدادنا العرب الكنعانيون أول حجر في مدينة يافا على شاطئ البحر قبل الألف الرابعة ق.م، أيقبل ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة ومن قبل أن يكون على سطح الأرض يهود أو ديانة يهودية يتبعها ويتشكون معها.
وقد اختار أجدادنا أن يبنوا مدينتهم على صخرة منيعة حولها أراض خصبة، وكان في شمال هذه الصخرة ينبوعان يرتوي منهما الإنسان والنبات فكانت تشف من موقعها هذا على زرقة البحر الأبيض المتوسط غرباً، وعلى بحر آخر من الخضرة اللامتناهية شمالاً وجنوباً.
وفي شرق يافا الطرق الهامة عبر فلسطين من مصر جنوباً إلى لبنان وسورية وتركيا شمالاً، وعند هذا الموقع يتفرع شرقاً طريق القدس وشق الأردن وما وراءها، وظلت يافا قائمة على صخرتها العتيدة تقاوم الزمن وترد المعتدين، فتارة تتحصن داخل أسوارها فيرتد عنها الغزاة، وتارة تفضل الموت على الاستسلام فيهدمها أهلها حتى لا تقع في أيدي أعدائها، ثم لا تلبث أن تسترد حياتها ومجدها، هذه العوامل مجتمعة جعلت من صخرة يافا موقعاً صالحاً لإنشاء مدينة منيعة وغنية بالزراعة والتجارة. وبقدر ما كان هذا من حسن طالع أهلها، فقد كان أيضاً من أسباب كثرة متاعبهم، بسبب غزوات الطامعين وحروب المتنافسين، ومن ثم يعتبر تاريخ يافا المديد منذ أكثر من ستة آلاف سنة من أحفل تواريخ بلدانيات العالم المليئة بالأحداث الجسام، بفعل ما تعاقب عليها من عصور الدمار الازدهار على حد سواء.
يافا الكنعانية
يؤثر عن الكنعانيين حبهم وولعهم بالفن والجمال، فلا غرابة أن يوفقوا في اختيار اسم مدينتهم الصحيح تماماً حين أطلقوا عليها (يافى) بمعني الزاهية أو الفاتنة، وذكرتها النقوش المصرية باسم (يابوة أوجوبا) وفي أحد آثار (سنحاريب) الملك الآشوري نقشت باسم (ياآب بو)، و(يوبا) هو الاسم الذي أطلقه عليها الإغريق، وأطلق عليها العرب اسم (يافا)، وأطلق عليها أيام الحروب الصليبية الفرجة اسم (جافا)، وكل هذه الأسماء محرفة من اسمها الأصلي الكنعاني (يافى).
ولما كانت الاكتشافات الأثرية التي تعود إلى العهد الكنعاني قد ضنت علينا بوصف دقيق لمدينة (يافا) الكنعاني فإن الآثار المكتشفة في الأماكن المجاورة (كمدينة جازر) يمكن أن تعطيها صورة ولو تقريبية لما كانت عليه (يافا) في ذلك العهد، ويبدو أنها كانت مجموعة غير منتظمة من البيوت الصغيرة المتزاحمة، منتشرة فوق الهضبة وعلى جوانبها، يحيط بها سور، حجارته مقطوعة بأدوات حادة، ومهذبة قليلاً، وكان للسور أبراج بلغ ارتفاعها اثني عشر متراً، ويتوسط المدينة قلعة في أعلى الرابية فيها قصر الملك وأماكن العبادة.
أما طرق المدينة فكانت ضيقة معوجة، وعيون الماء خارج سورها، مما جعلها تعاني المصاعب أوقات حصارها، مما دعي السكان إلى أن ينحتوا في الصخر أحواضاً، لخزن المياه ليشربوا منها فترات الحصار، فلما زاد عدد السكان، واتسعت الرقعة التي تشغلها المدينة زحزحت الأسوار ليدخل في نطاقها ما استجد من البيوت، وتدخل أيضاً هذا النطاق عينا الماء المذكورتان، مما جعلها بمأمن من العطش أوقات الحصار، فكانت كسائر المدن الكنعانية مملكة بحد ذاتها.
أما عن نشاطات أهل يافا لكسب قوتهم في تلك الآونة، فقد تنوعت بين الزراعة والرعي والصناعة والتجارة. أما الزراعة، فقد بلغت عندهم درجة عالية من التقدم، ولا عجب في ذلك، فبإجتماع العلماء أن قدامى أهل فلسطين هم أول شعب مارس الزراعة، وقد اشتهر السهل الساحلي بمراعية الخصبة التي استغلها النوطفيون منذ العصر الحجري الوسيط، كما اشتهرت يافا بصناعاتها منذ ولادتها. ومن الصناعات المبكرة جداً فيها الغزل والنسيج والفخار وعصر الزيت والخمور وبناء السفن. وحيث إنها كانت من أقدم موانئ العالم، فقد جعلها ذلك المنفذ الأول الفلسطيني من حيث التصدير والاستيراد.
علاقة يافا بمصر
ربما تعود العلاقة إلى العهد النطوفي أو بعده مباشرة، وقد ابتدأت تجارية، ولكن في عهد الأسرة الخامسة الفرعونية (2540ق.م) في نقوش (أبو بصير) نجد مناظر إقلاع وعودة أسطول مصري إلى أحد شواطئ فلسطين من المرجح أنه ميناء يافا، وبإجماع علماء الآثار أن استقبال الملك لهذا الأسطول –يحط به كبار الموظفين- دليل على أن هذا الأسطول لم يذهب للحرب أو التجارة، إنما كان في رحلة ودية إلى تلك المدينة، وربما عاد بأميرة من الأميرات، لتصبح زوجة للفرعون.
وهناك أيضاً من الأسرة السادسة في عهد الملك (بيبي الأول) وثيقة مهمة، وهي لوحة القائد المصري (أوني) الذي عاش حوالي عام (2400ق.م). وقد ذكر هذا أنه ذهب لإخماد ثورة قامت في فلسطين، فجهز جيشين سار أحدهما بطريق البر، وذهب هو مع الجيش الثاني بطريق البحر، وأنهم نزلوا عند مكان يحتمل أن يكون على مقربة من جبال الكرمل، وأنه توغل بعد ذلك داخل البلاد، وقمع تلك الثورة. ويفهم من كل هذه المعطيات أن أنسب مكان يمكن أن تدور به هذه الأحداث إنما كان مدينة يافا، بدليل ذكر (سهل سارون) وهو السهل الممتد لين يافا جنوباً وجبال الكرمل شمالاً.
فقد ذكر أن (أوني) كان يجتمع في التخوم التي اجتازها من فلسطين مع رجال القوافل الفلسطينية الذين كانوا يوثقون الروابط التجارية مع بلاد نهر العاصي بسهل سارون. ومن المحتمل جداً أن تكون قد انتشرت بوساطتهم السلع والصناعات بين مصر وبلاد ما بين النهرين، وكانت يافا حلقة الوصل، وكانت يافا ضمن المدن الفلسطينية التيتم ذكرها في وثائق اللعنة الفرعونية، التي تعود إلى حوالى (1800ق.م).
وفي الفترة ما بين (1550-1225ق.م) يؤثر عن يافا أنها كانت مركزاً إدارياً محلياً، وفي بداية هذه الفترة من تاريخها كانت نهاية (الهكسوس) على يد أحمس، وإن كانت حملات أحمس قد انحصرت في المواقع الجنوبية من فلسطين، إلا أنها مهدت لإخضاع فلسطين وشرق الأردن، وغالبية المناطق السورية الأخرى أثناء الحملات التي شنها (تحتمس الثالث) حوالي (1470-1405ق.م). ويبدو أن هذه الحملات قد زادت على ست عشرة حملة، وصل بعضها حتى نهر الفرات. ويقودنا هذا إلى وقفة سريعة عند موضوع افتتاح يافا، حيث تواجهنا عدة اسئلة تلح في طلب الإجابة عليها تتعلق بتفرد يافا عن غيرها من أخواتها من المدن المفتوحة بهذا القدر العظيم الشأن من الاهتمام، مما جعلها تتبوأ مكانة سامية في الوجدان المصري، ويدور حولها الكثير من القصص والأساطير. فيا تري هل يعود ذلك إلى شهرتها التي حظيت بها منذ ولادتها؟ أو إلى منعتها وصمودها في وجه (تحمس) ومن سبقه من فراعنة مصر؟ أو أنه يعود إلى الاثنين معاً؟.
ويمكن القول بوجه عام: إن الشهرة التي حظيت بها جوهرة فلسطين وجنتها قد تعدت الواقع إلى مجال الخيال، مما جعلها تقف في مصاف أعظم مدائن العالم القديم، إن لم يكن في مقدمتها، فوجد فيها المؤخرون القدامى مادة خصبة لقصصهم وأساطيرهم، وغلفوها بهالة من الغموض والسحر، فها هو المؤرخ الروماني الشهير (بليني) يذكر أن يافا قد بنيت قبل الطوفان، وفي بعض الروايات أن نوحاً بني فلكه فيها، ولما انحسرت مياه الطوفان عن كرومها أعاد ولده (يافث) بناءها، وحول الصخور السوداء التي تنتشر في ميناء يافا أسطورة يونانية (اندروميدا).
وإن كان هذا وحده كفيلاً بتخليدها، فثمة عمل آخر لا يقل عنه أهمية، ويتمثل فيما حظاها الله تعالى به من منعة وثراء، جعلاها قلعة حصينة فريدة في نوعها يقف الغزاة أمامها عاجزين عن اقتحامها، ولعل في هذا ما يفسر لنا الطريقة التي فتحت بها يافا، والتي قام بابتكارها قائد (تحتمس) وهو (تحوتى) حسبما حسب ما جاء في الأدب المصري، وتداولته الألسن لأجيال عديدة، وهي طريقة تختلف تماماً عما كان يتبعه الفراعنة في فتح المدن، وجاءت أيضاً على خلاف ما عودنا عليه الفراعنة، من المبالغة والتهزيل، حين يريدون الحديث عن بطولاتهم وبسالتهم في مواجهة أعدائهم.
ويعتقد الباحثون أن يافا أصبحت القاعدة البحرية التي ينتقل إليها الجنود من مصر، وازدهرت أحوال يافا بعد انتصار (رمسيس الثاني) على الجيش، وعرف عمالها بالمهارة، وأهلها بالغنى، واشتهرت حدائقها بالجمال وجودة الثمار، وفي أوائل القرن الثاني عشر ق.م، ظهر الفلسطينيون (أحد بطون الكنعانيين)في هجراتهم المتأخرة، على أبواب يافا في طريقهم إلى غزو مصر، فاستطاع (رمسيس الثالث) أن يهزمهم، وربما يكون قد جمع سفنه عند يافا التي ظلت مركز حامية مصرية ترتبط بمصر مباشرة، ونقطة مراقبة، وقاعدة إنزال للقوات عند الضرورة.